تاريخ

جبل طارق.. تاريخ حديث

يقع مضيق جبل طارق، على الطرف الأقصى في غرب البحر الأبيض المتوسط. وهو يحتل موقعاً استراتيجياً استثنائياً، وهو ما جعله موضوع صراعات عسكرية عديدة، ذلك أنه يشكل نقطة مفصلية للسيطرة على عموم حوض المتوسط. وهكذا تحارب من أجله، الرومان والقرطاجيون والأوروبيون والعرب، قبل أن يقع في عام 1704، تحت سيطرة البريطانيين.

والأستاذان الجامعيان غاريت ستوكي وكريس غروكوت، يقدمان في كتابهما الذي يحمل عنوان: “جبل طارق: تاريخ حديث”، عرضاً تاريخياً لمنطقة المضيق، منذ ذلك التاريخ، وحتى الحقبة المعاصرة، من خلال علاقة السكان الأصليين بالإمبراطورية البريطانية، ثم في العهود البريطانية المتعاقبة، منذ فرض البريطانيون سلطتهم التي لا تزال قائمة حتى اليوم. والتأريخ بالوقت نفسه، للوجود البريطاني وللبريطانيين في جبل طارق.

اكتسب جبل طارق تسميته، من اسم القائد الإسلامي طارق بن زياد، الذي أقام “رأس جسر” في أوروبا، واجتاز مع جنوده المضيق، إلى الأراضي الاسبانية، خلال فترة الفتوحات العربية الإسلامية- وكان البريطانيون قد احتفظوا باستمرار بوجود عسكري مهم في جبل طارق. وإذا كان هذا الوجود قد تضاءل كثيراً اليوم، فإن آثاره لا تزال باقية بوضوح.

وتجدر الإشارة، في الوقت نفسه، إلى أن الأغلبية الساحقة من سكان جبل طارق، عارضت منذ البداية، ذلك الوجود البريطاني، إذ إنهم لا يزالون يشكّلون حتى اليوم، مجموعة بشرية متجانسة. وكان البريطانيون باستمرار، في مواجهة شبه مفتوحة مع الاسبان، والذين يطالبون به على أساس أنه جزء لا يتجزأ من السيادة الاسبانية. وفي كل الحالات، يلفت المؤلفان إلى أن مسألة جبل طارق كانت باستمرار أحد الأسباب الكبرى في تشوش العلاقات البريطانية-الاسبانية.

ويحدد المؤلفان أحد الأهداف الأساسية لعملهما في تقديم “تاريخ مدني” لجبل طارق، منذ عام 1704، تاريخ بداية السيطرة البريطانية عليه. ويتم التعرّض ضمن هذا الإطار إلى مسائل التنمية الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية. ويلفتان إلى أن سكان جبل طارق قريبون جداً، على مستوى العادات والسلوك الاجتماعي، من الاسبان، إلى جانب التأثير البريطاني على تطور المؤسسات، وعلى إيقاع التغيرات الدستورية.

ويحدد المؤلفان القول ان أحد الأسباب الجوهرية في المسار التطوري لجبل طارق، يكمن في الدور الذي لعبه منذ البداية، باعتباره قاعدة عسكرية استعمارية في مجتمع ذي طابع مدني، بالدرجة الأولى. وكان يتمتع بمؤسسات ديمقراطية خاصة فيه. ويتم انطلاقاً من ذلك، شرح العلاقات المعقدة والديناميكية، بين الأحداث الخاصة في بريطانيا واسبانيا، ومنطقة مضيق جبل طارق، منذ الوجود البريطاني الدائم، في عام 1704. ومن خلال ذلك كله، ونتيجة له، برزت هوية متمايزة، سياسية وثقافية، لجبل طارق.

كما تتمثل إحدى نقاط أهمية هذا الكتاب، في المعلومات التي يقدمها المؤلفان عن منطقة جبل طارق، من حيث الأحداث التاريخية الكبرى التي شهدتها، ابتداءً من مطلع القرن الثامن مع الفتح الإسلامي لإسبانيا الكاملة، ووصولاً إلى عام 1492، عندما غادر المسلمون غرناطة لينتهي يومها الحضور الإسلامي في اسبانيا، والذي استمر عدة قرون.

وفي شهر أغسطس، من عام 1704، احتل الجنود الإنجليز والهولنديون، بقيادة جورج بوك، المضيق. واعترفت اسبانيا بذلك، حيث لم تفلح عدة محاولات اسبانية في استعادته، خاصة خلال الفترة المعروفة ب: “الحصار الكبير”، في الفترة ما بين عامي 1779و1781. وكان ذلك قد تزامن مع حرب الاستقلال الأميركية ضد الاحتلال البريطاني. ويبلغ عدد سكان جبل طارق حوالي 28000 نسمة.

ونطالع في الكتاب، معلومات عن التطور السياسي لمضيق جبل طارق، إذ جرت معاملته على أساس أنه مقاطعة بريطانية لما وراء البحار، منذ السيطرة عليه، وكانت المملكة المتحدة قد أخذت على عاتقها المسائل المتعلقة بالدفاع والسياسة الخارجية والأمن الداخلي والمسائل الاقتصادية.

وما لا يعرفه كثر هو أن جبل طارق ينضوي في إطار الاتحاد الأوروبي، بناءً على معاهدة الانضمام التي كانت قد وقعتها بريطانيا. لكن منطقة جبل طارق لا تطبق بعض المعاهدات الأوروبية، مثل تلك المتعلقة بالسياسات الجمركية والسياسة الزراعية الأوروبية المشتركة. وتتم الإشارة في هذا السياق، إلى أن منظمة الأمم المتحدة، لا تزال ترى أن جبل طارق في عداد المناطق التي تضمّها القائمة الرسمية للمناطق المطلوب تحريرها من الاستعمار.

وأمّا عصب الحياة الاقتصادية في جبل طارق فتمثله النشاطات العسكرية، خاصة في إطار ورشات الصيانة البحرية. ويأتي بالدرجة الثانية قطاع الخدمات. ويشكّل البريطانيون العنصر الأكثر أهمية بالنسبة لقطاع السياحة. وتعادل قيمة “ليرة” جبل طارق، قيمة الليرة الاسترلينية.

وكان سكان جبل طارق قد مارسوا الاقتراع “الشعبي” عام 1967، للتأكيد على حق تقرير المصير ورفض الانضمام إلى اسبانيا. وفي عام 2004 احتفل جبل طارق بالذكرى الثلاثمائة للوجود البريطاني في المنطقة.

موقع مفصلي

يبيّن المؤلفان، كيف أن أحداثاً كبرى عرفتها أوروبا والعالم خلال القرن العشرين، كان لها هي أيضاً، آثارها على مفهوم وجود هوية متميّزة لسكان جبل طارق. ومن أهم تلك الأحداث التي فعلت فعلها في المسار الإنساني كله، الحرب العالمية الثانية التي غيّرت عملياً، خارطة القارة الأوروبية كلها. وهناك أيضاً “نهاية الإمبراطورية البريطانية” و”الحرب الأهلية الاسبانية”، إذ إن الاضطرابات التي عرفتها فترة الجنرال فرانكو، ساهمت في إغلاق الحدود، أكثر فأكثر، بين اسبانيا وجبل طارق.

المصدر (البيان)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق