تاريخ
قناة بنما: لمحة تاريخية
بدأت الولايات المتحدة بإنشاء قناة بطول 80 كيلومترًا عبر برزخ بنما سنة 1904، بعد أن فشل فريق فرنسي في إقامتها في ثمانينيات القرن 19. مما ساعد على إقامة المشروع إبادة البعوض الحامل للأمراض، والتقنيات الجديدة التي ابتكرها رئيس المهندسين جون ستيفنز، الذي عمل أيضًا على إعادة تصميم جوهرية لتحول القناة من مستوى سطح البحر إلى قناة مقفلة.
كثّف خلفه الضابط جورج واشنطن غوثالز جهود حفر السلسلة الجبلية العنيدة وأشرف على بناء السدود وبوابات القناة. وافتتُحت قناة بنما سنة 1914 وأدارتها أمريكا حتى سنة 1999 إذ تسلمت بنما إدارتها.
ربط المحيطين الأطلسي والهادي
تعود فكرة خلق ممر مائي في برزخ بنما لربط المحيطين الأطلسي والهادي إلى القرن 16، حين أمر ملك إسبانيا تشارلز الأول الحاكم المحلي باستكشاف طريق يوازي نهر تشاغريس، لكن إنشاء طريق عبر المنطقة الجبلية المليئة بالأدغال كان مستحيلًا في ذلك الوقت، لكن الفكرة ظلت قائمة، إذ سيوفر تحقيقها طريقًا مختصرًا من أوروبا إلى شرق آسيا.
كانت فرنسا أول دولة حاولت القيام بالمهمة، إذ بدأ فريق يقوده باني قناة السويس الكونت فرديناند ديليسبس بالعمل على شق قناة في بنما سنة 1880، خُطِّط أن تكون بمستوى سطح البحر، لكن الفرنسيين سرعان ما استوعبوا التحدي الهائل الذي يواجههم، إذ حاربتهم الأمطار الغزيرة المتواصلة التي أدت إلى انهيارات أرضية كبيرة، إضافةً إلى انتشار الملاريا والحمى الصفراء.
أدرك ديليسبس أن قناة بمستوى سطح البحر ستكون صعبة الإنشاء فأعاد تنظيم الجهود لإنشاء قناة مقفلة ببوابات، إلا أن تمويل المشروع توقف سنة 1888 م.
تيدي روزفلت وقناة بنما
بعد مداولات لجنة قناة بنما الأمريكية، وبعد تشجيع من الرئيس ثيودور روزفلت، اشترت الولايات المتحدة الأصول الفرنسية في منطقة القناة بمبلغ 40 مليون دولار سنة 1902. حاولت الحكومة الأمريكية توقيع معاهدة حول حقوق بناء القناة مع كولومبيا، فلما رفضت الأخيرة ذلك ساعدت أمريكا حركة الاستقلال البنمية، وهكذا تفاوضت مع الحكومة الجديدة.
في 6 نوفمبر 1903 اعترفت أمريكا بجمهورية بنما، وفي 18 من الشهر نفسه وُقِّعت معاهدة هاي بوناو فاريلا التي منحت أمريكا ملكية حصرية لمنطقة القناة، مقابل منح بنما 10 ملايين دولار، و250 ألف دولار سنويًا ابتداءً من السنة التاسعة.
تفاوض على هذه المعاهدة وزير الخارجية الأمريكي جون هاي والمهندس الفرنسي فيليب جان بونوا فاريلا، ولم يقبل العديد من البنميين بها وعدّوها انتهاكًا لسيادة بلادهم.
يبدو أن الأمريكيين لم يتعلموا الدرس من الفرنسيين، إذ أعدوا الخطط لقناة بمستوى سطح البحر تمتد لمسافة 80 كيلومترًا من كولون إلى بنما سيتي، وبدأ العمل في المشروع رسميًا باحتفالية افتتاح في 4 مايو 1904، وسرعان ما واجه رئيس المهندسين جون والاس المشكلات، فكثير من المعدات الفرنسية كانت تحتاج إلى إصلاح، إضافةً إلى انتشار الحمى الصفراء والملاريا ما أخاف العاملين. استقال والاس بعد عام واحد هربًا من الضغط المسلَّط عليه لمواصلة العمل على المشروع.
حل جون ستيفنز محل والاس في يوليو 1905، وكان ستيفنز اختصاصيًا في السكك الحديدية، وحالما بدأ عمله وظّف عاملين من الهند الغربية، وطلب معدات جديدة وصمم طرقًا لتسريع العمل، كاستعمال ذراع الحفارة في رفع قطع من السكك الحديدية، وتعديل مسار القطار لنقل المواد المحفورة بعيدًا، وقد أدرك سريعًا الصعوبات التي ولّدتها الانهيارات الأرضية، فأقنع روزفلت أنه من الأنسب -بأخذ تضاريس المنطقة في الحسبان- إنشاء قناة مُقفلة ببوابات.
ساعد كبير الموظفين الصحيين د. وليام غورغاس كثيرًا في إنجاز المشروع، إذ آمن بأن البعوض ينقل الأمراض المتوطنة المميتة، فبدأ حملة للقضاء عليه، وبذل فريقه جهدًا كبيرًا في رش البيوت وتطهير البحيرات للتخلص من البعوض. كان تاريخ آخر حالة مسجلة للإصابة بالحمى الصفراء في برزخ بنما هو نوفمبر 1905، وهبط معدل الإصابة بالملاريا سريعًا خلال العقود اللاحقة.
زار الرئيس روزفلت المنطقة في نوفمبر 1906 وكان المشروع في طور التنفيذ، إلا أن المشروع عانى نكسة حين استقال ستيفنز فجأة بعد أشهر قليلة، فعين روزفلت المهندس العسكري جورج واشنطن غوثالز في منصب رئيس المهندسين، ومنحه جميع الصلاحيات الإدارية في منطقة العمل، وأثبت غوثالز جديته بقمعه إضرابًا عن العمل، وأشرف على إضافة مرافق لتحسين ظروف حياة العاملين وعوائلهم.
أخطار قناة بنما
ركز غوثالز جهوده على عملية شق كوليبرا، بهدف تعديل السلسلة الجبلية الممتدة بين غامبوا وبيدرو ميغيل، إذ أصبح حفر هذه الأميال التسعة -نحو 14 كيلومترًا- عملية مستمرة على مدار الساعة، ساهم فيها قرابة 6000 رجل يعملون معًا، ومع أن الحرص كان من سمات هذه المرحلة في المشروع، فإنها كانت منطقة خطيرة حد الموت، وتزايد عدد الضحايا الذين سقطوا نتيجة الانهيارات الأرضية المفاجئة وعمليات التفجير بالديناميت.
بدأ إنشاء البوابات بصب الإسمنت في غاتون في 8 أغسطس 1909، وبنيت البوابات في أزواج تضم بينها حجرات عرض كل منها 33 مترًا وتمتد مسافة 300 متر، وقد غُرست البوابات ببرابخ مقاومة للجاذبية لرفع مستوى الماء وخفضه.
في النهاية استطاعت البوابات الثلاث عبر القناة رفع السفن مسافة 25 مترًا فوق مستوى سطح البحر إلى بحيرة غوتام الصناعية في الوسط، وقد بُنيت بوابات مجوفة قابلة للطفو أيضًا، تراوح ارتفاعها بين 15 و25 مترًا، وغذّت الطاقة الكهربائية المنشأة وسُيطر عليها بلوحة مفاتيح التحكم.
إكمال قناة بنما
بدأ المشروع يتجه إلى خواتيمه في 1913 مع عمل جرافتين بخاريتين من جهتي القناة التقتا في وسط شق كوليبرا في مايو، ولم تمض بضعة أسابيع حتى أُغلق آخر مفيض في سد غاتون ليسمح للبحيرة بالارتفاع حتى أقصى مستوى، وفي أكتوبر أرسل الرئيس وودرو ولسون تلغرافًا من البيت الأبيض لإجراء التفجير في حاجز غامبوا ففاض آخر نطاق جاف في شق كوليبرا بالماء.
افتُتحت قناة بنما رسميًا في 15 أغسطس 1914، وقد قُلص الحفل الضخم الذي كان مخططًا له بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى.
تكلفت القناة 350 مليون دولار، فكانت أكثر المشاريع البنائية تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة حتى وقتها، وأُنشئت باستعمال نحو 3.4 مليون متر مكعب من الأسمنت لبناء البوابات، وحفر نحو 220 مليون متر مكعب من الصخور والتراب وإزالتها خلال الحقبة الأمريكية من البناء.
توفي العديد من الأشخاص في عملية إنشاء القناة، فمن بين 56 ألف عامل عملوا بين عامي 1904 و1913 توفي نحو 5600 شخص.
تأثير قناة بنما
عزز قناة بنما إنشاء سد مادين سنة 1935، فثبتت أهميتها في تنشيط طرق التجارة العالمية المتنامية في القرن العشرين.
بدأ التحول نحو الإشراف المحلي سنة 1977 بمعاهدة وقعها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر مع نظيره البنمي عمر توريجوس، وقد نصت المعاهدة على تسليم إدارة القناة بالكامل إلى بنما في 31 ديسمبر 1999.
سنة 1994، عدّت جمعية المهندسين المدنيين الأمريكيين القناة إحدى العجائب السبع الحديثة، وبلغ عدد ما مر بالقناة من سفن حتى سبتمبر 2010 مليون سفينة.
المصدر (موقع التاريخ)