تاريخجغرافيارياضات مائيةموانئ

الملاحة البحرية والنهرية

الملاحة عامة navigation هي مجموعة أعمال تنفذ لتحديد مواقع المراكب وتوجيه حركتها وإرشادها للوصول بها إلى غايتها، ومن هذه المراكب سفن السطح والغواصات والطائرات والصواريخ والمركبات الفضائية والأقمار الصناعية، وحتى المركبات التي تسير على الأرض. ويشتمل فن الملاحة على علوم كثيرة، كعلم الفلك والرياضيات والفيزياء والأرصاد الجوية وعلم البحار والمحيطات والتضاريس، وتستخدم فيها وسائل وأجهزة وتقنيات متعددة منها البوصلة المغنطيسية والجيروسكوبية وساعات قياس الزمن ومقاييس السرعة والرياح والتيارات المائية والارتفاعات والأعماق والضغط الجوي وأجهزة الرصد الفلكي وأدواته والاتصالات الأرضية والفضائية وتحت المائية والخرائط البحرية والأرضية والكونية وأجهزة التوجيه الآلي.

الملاحة البحرية sea navigation هي أم الملاحة عامة، وتفرعت منها الملاحة النهرية river navigation بخصوصيتها. ومع ارتقاء الإنسان في الجو، ظهرت الملاحة الجوية والفضائية.

لمحة تاريخية

لا يعرف بالضبط متى ركب الإنسان البحر، وكان الدافع الأول له رغبته في اكتساب المعرفة وكشف المجهول والمغامرة والحصول على الرزق ثم التجارة والسيطرة. وكان ركوب البحر يقتصر على النخبة من المغامرين الأشداء، ونسجت عنه الأساطير والخرافات مقرونة بالمخاطر والأهوال، كما جاء في أشعار هوميروس وحكايات السندباد البحري وحوريات البحر. ومن ثم انتظم فن الملاحة وركوب البحر تدريجياً، كما يلاحظ من آثار الفينيقيين والفراعنة وشعوب البحر المتوسط، فاليونانيون والفرس والرومان والعرب، ثم الإسبان والبرتغاليون والإنكليز، إضافة إلى سكان بحار الشمال من الفايكنغ والنورمان، وبحَّارو الشرق واليابان والصين. وكانت الملاحة تعتمد أساساً على الخبرة ثم العلم المكتسب، فقد أنشأ فرعون مصر سنفرو من الأسرة الرابعة عام 2650 ق.م أسطولاً بحرياً ونهرياً ويذكر هيرودوت أن الفرعون نخاو أمر الملاحين الفينيقيين بالطواف حول إفريقيا في ثلاثة أعوام. وكان للفينيقيين «إلهة» للبحر تدعى شيرا، كما أرسل الإسكندر المقدوني عند وصوله إلى الهند عام 325 ق.م قائد أسطوله نيارخوس ليكتشف أسرار المحيط الهندي. واستخدم الفرس البحارة اليونان لتسيير أساطيلهم، وكانوا يستعينون بالفلك ومتابعة حركة الأجرام السماوية والأبراج ودراسة اتجاهات الرياح الموسمية ووضعوا خرائط مبسطة لها بحسب الخبرة. واستخدم العرب البوصلة التي سموها «الحُقه» و«بيت الإبرة»، كما اخترعوا الاسطرلاب  وآلة الثُمن لقياس الزوايا بين الأجرام السماوية وخط الأفق، فكانت أساساً لاختراع آلة السُدس، واستعانوا بالجداول الفلكية التي وضعها رؤساء البحر والعلماء مثل الزرقالي والبيروني  والفزاري، وكثير من رواد علم الفلك والرياضيات. واشتهر من الملاحين العرب «سليمان المهري» التاجر (ت. نحو 237هـ/851م) الذي كتب رسالة في الملاحة ووصف الزوابع والأنواء والأعاصير الحلزونية، بعنوان «رحلة التاجر سليمان»، وهي موجودة بالمكتبة الأهلية بباريس. ويُعد ابن ماجد الملقب أسد البحر، أمهر ملاحي زمانه، وقد ترك مجموعة من الكتب والرسائل التي تتحدث عن علوم البحر والملاحة وفنونها، وخاصة كتابه «الفوائد في علم البحر والقواعد» الذي كان من أهم المراجع البحرية في العصور الوسطى. وكذلك كانت شعوب الفايكنغ من أمهر شعوب البحر، واكتشفت أيسلندا على أيديهم عام 790م، ووصل إريك الأحمر غرينلند عام 981 م، وبلغت الكشوف الجغرافية البحرية أوجها في عصر النهضة فوصل كريستوفر كولومبوس  إلى جزر «البهاما» و«الدومينيكان» و«جمايكا» بعد عام 1415م، وتمكن فاسكودي غاما[ر] من الوصول إلى الهند عام 1499م بمساعدة بعض الملاحين العرب. وقام الملاح الإسباني فرناندو ماجلان  بالدوران حول الأرض من الغرب عام 1521م.

وفي عام 1569م ابتكر الجغرافي الفنلندي جيراردوس مركاتور Geraduc Mercator رسم الخرائط بطريقة أقرب إلى الصحة والدقة وسميت باسمه، وساعدت على تطوير الملاحة وتحديد الاتجاه والمسافة والمكان على سطح الكرة الأرضية بدقة .


أنواع الملاحة
كما توصل عالم الرياضيات الإنكليزي جون هادلي John Hadley والأميريكي توماس غودفري Thomas Godfrey إلى اختراع آلة السدس عام 1730م وتوصل جون هاريسون John Harrison الإنكليزي إلى صنع «الكرونومتر» Chronometer لقياس الزمن، وقد جمع الإنكليزي نيفيل ماسكلين Nevil Maskelyne أول تقويم فلكي بحري، كما اخترع المهندس الألماني هيرمان أنشوتزكايمف Hermann Anschütz-Kaempfe عام 1908م البوصلة الجيروسكوبية التي تحدد الاتجاه الحقيقي وتطورت أجهزة الرادار إبان الحرب العالمية الثانية لتساعد على الملاحة الرادارية .

يمكن تقسيم الملاحة البحرية إلى:

– الملاحة الشاطئية أو الساحلية (المساحلة)، ومنها الملاحة في البحيرات، والملاحة النهرية، وفي المضائق والممرات حيث التماس البصري أو الراداري مع الساحل مباشرة.

 – الملاحة في أعالي البحار، وتشتمل الملاحة في البحار والمحيطات عامة وفي منطقة القطبين.

تعتمد الملاحة البحرية عامة على طرق عديدة أهمها:

– طريقة تقدير الموقع أو الموقع الحسابي: تعتمد هذه الطريقة على تحديد نقطة انطلاق ثابتة ومعروفة (مثل مدخل ميناء)، ثم السير باتجاه معروف وبسرعة محدّدة وفي زمن محدّد، فتصل المركبة إلى مكان ثان يسهل تحديده حسابياً. حيث يحدِّد الربان على الخريطة نقطة الانطلاق ويرسم منها خطاً يمثل اتجاه السير وعليه المسافة التي قطعتها المركبة نتيجة جداء الزمن بالسرعة. وعند حدوث تغيير في أي من العناصر الثلاثة السابقة تحدد نقطة جديدة، وهكذا يرسم الطريق على الخريطة، إلا أن هذه الطريقة ليست بالغة الدقة لأنها لا تأخذ في الحسبان التيار وأخطاء التوجيه والرياح، ولابد من استخدام وسائل أخرى من وقت إلى آخر لتحديد نقاط ثابتة جديدة تُصحح الموقع في أثناء السير الطويل. تساعد هذه الطريقة الملاَّح على التقدير المسبق للمواقع التي ستصل إليها المركبة، وتقدير الوقت الذي ستصل فيه إلى غايتها. يوجد في السفن جهاز يسمى «رسَّام تقدير الموقع» يُبين مكان المركب إلكترونياً على شاشة أو على بيان إلكتروني بالاعتماد على مسجّل السرعة والزمن والبوصلة الجيروسكوبية، وتسجل هذه المعلومات أتوماتياً على الخريطة.

– الطريقة الاسترشادية: يعتمد الملاَّح في هذه الطريقة على نقطة  إرشادية واحدة أو أكثر كدليل، وهي علامة أرضية مميزة على البر أو ثابتة في البحر. والخرائط الحديثة أهم وسيلة تساعد الملاَّح بهذه الطريقة، فهي تبين الجبال والجزر والمعالم المميزة على الساحل وعوامات الإرشاد الملاحية والمنارات. وبتحديد الاتجاهات الزاوية للعلامات الأرضية والمسافات بينها وبين المركب، مع استخدام العضادة أو دائرة السمت، يؤخذ الاتجاه الزاوي ويرسم على الخريطة على شكل خط الموقع الذي يهتدي المركب به في مساره. أما نقطة تقاطع خطي موقع لعلامتين أرضيتين في آن واحد، فيحدد مكان المركب في اللحظة الآنية. وللطريقة الاسترشادية أسلوب آخر كمتابعة الاتجاه الزاوي لعلامة أرضية واحدة على  فترات زمنية مختلفة إلى غير ما هنالك.

– طريقة تحديد الأعماق: تعتمد هذه الطريقة كلياً على الأعماق المحددة بدقة على الخرائط البحرية، وكذلك على جهاز محدَّد الأعماق في السفينة، وهو يعطي العمق تحت السفينة مباشرة. وبمقارنة هذه المعلومات مع الخريطة والأعماق المسجَّلة عليها يعرف الملاَّح موقعه على التوالي. وهذه الطريقة تقريبية واحتياطية ويمكن استخدامها في المناطق ذات الأعماق الواضحة.

الملاحة الفلكية celestial navication

تعتمد الملاحة الفلكية عامة على تحديد موقع المركب في البحر والبر بمتابعة الأجرام السماوية مثل الشمس والقمر والنجوم والكواكب، نتيجة التبدل الظاهري لمواقع بعضها حسب الزمن والتوقيت السنوي وميل الأرض والمكان. يمكن تحديد الموقع باستخدام آلة السُدس التي تقاس بها زاوية النجم في لحظة ما مع الأفق، وغالباً عند الغسق والشفق، أو مع الشمس والقمر وهي تسمى زاوية الارتفاع الحسابي .

 وبمساعدة التقويم الفلكي nautical almanc، أو جداول خاصة تسمى فراي ـ كور وبحسابات المثلثات الكروية؛ يحدد موقع السفينة. وبتكرار هذه العملية مع أجرام سماوية متعددة يُحصل على خط سير للمركب، ويمكن للغواصات بمساعدة البيروسكوبات الخاصة الحصول على هذه المعلومات لحساب موقع الغواصة، إلا أن هذه الطريقة تتطلب سماءً صافيةً وخاليةً من الغيوم ورؤية الأفق بوضوح.

الملاحة الإلكترونية

    وهي تتم بعدة طرائق وأساليب وأنظمة، وتعتمد على الأجهزة الإلكترونية باستخدام الراشدات الراديوية ذوات الترددات الموجية المختلفة. وأدقها في تحديد الموقع تلك التي تعمل على التردد العالي، إلا أن مجال استقبال إشارات التردد العالي لا يتعدى دائرة الأفق. وتتميز الإشارات ذوات الترددات المنخفضة بإمكان استقبالها على مسافة آلاف الأميال، إلا أن دقتها أقل من سابقتها.

ومن هذه الأنظمة:

– منظومة الملاحة بعيدة المدى (اللوران): وتعمل على إرشاد السفن والطائرات في مداها بالاستعانة بمحطات رئيسة ومحطات فرعية. ترسل هذه المحطات نبضات راديوية متوسطة أو منخفضة تلتقطها أجهزة خاصة في المركبات، ويمكن بوساطتها إنشاء خطوط موقع يحدد تقاطعها المكان الدقيق للمركبة .

– منظومة الملاحة (أوميغا) 1982: وهي منظومة عالمية تُستخدم في السفن والطائرات بالاعتماد على ثمانية أجهزة إرسال تغطي العالم، بتعاون دولي ووجود معدات إلكترونية خاصة على متن المركبات لاستقبال الإشارات. يتم إنشاء خطي موقع على الأقل يحدد تقاطعهما موقع المركب.

– منظومة المدى الشمولي: وهي منظومة ملاحية تُستخدم في المركبات الهوائية خاصة، وتشتمل على معدات قياس المسافات التي تحدد بعد المركبة عن أجهزة الإرسال فتحدد مسافاتها.

– منظومة تحديد الاتجاه الراديوي: وتعتمد على إشارة صادرة عن منارة أو فنار راديوي يرسل الإشارات التي تلتقطها هوائيات المركب وتدل على اتجاه الفنار، ويمكن تغطية بعض البحار بها مثل بحر البلطيق وبحر الشمال والبحر المتوسط والأحمر والأسود. هذه الطريقة من أقدم منظومات الملاحة الإلكترونية عامة في السفن والطائرات.

– الرادار: يعتمد على الإشارة المرتدة عن الأجسام التي تصطدم بها. ولدى وصل الرادار بأجهزة تحديد الاتجاه يمكن معرفة الأجسام المحيطة واتجاهها والأهداف التي تصل إليها الإشارة، فتحدد موقع المركبة من علامات أرضية مهما اختلفت أحوال الطقس والليل والنهار لمنع التصادم مع الأجسام والمركبات الأخرى ومتابعة سير الطائرات والقذائف الموجهة وسفن الفضاء والسفن البحرية.

– الملاحة باستخدام السواتل [ر] (الأقمار الصناعية): هناك منظومات لاستخدام السواتل في الملاحة. كمنظومة «ترانزيت» الأمريكية التي بدء باستخدامها عام 1964 وانتهى عام 1996 وكانت تستفيد من معطيات سبعة سواتل دائمة، ولها عدة سواتل احتياطية تدور كلها في مدارات متباعدة، مع استخدام جهاز استقبال مرتبط بحاسوب على المركبة لتحديد موقعها. ومنظومة السواتل الملاحية للتوقيت وقياس المسافة «نافستار» Navigation Satellite Timing And Ranging (NAVSTAR) وهي الأحدث، وتغطي كلها الكرة الأرضية .

 بدأ تشغيلها بكامل طاقتها عام 1995. وتتكون المنظومة من 21 ساتلاً مع ثلاثة سواتل تبث موقعها لحظياً، ويمكن للمستقبل مع الحاسوب في المركبة تحليل إشارة ملتقطة من ثلاثة سواتل في آن واحد، محدداً بها موقع المركبة. وهذه المنظومة تسمح بتحديد أوضاع جميع المركبات على الأرض أو في السماء، وفي جميع الشروط الجوية، ومثلها منظومة «غلوناس» GLONASS التي أنشأها الاتحاد السوڤييتي سابقاً ثم امتلكتها روسيا حالياً.

– التوجه بالقصور الذاتي inertial guidance system (1954 – 1950): تعتمد هذه الطريقة على استخدام حاسوب وجهاز يدعى «ملاّح القصور الذاتي» يتلقى المعطيات عن تغيرات حركة المركبة مع محدّد اتجاه يعملان معاً على تحديد مسار المركب وموقعه، وكانت هذه الطريقة مستخدمة في الطائرات والغواصات ومختلف المراكب والقذائف الموجهة.

الملاحة النهرية

عُرف التنقل في الأنهار قبل ركوب البحر، وكان المصريون القدماء يستخدمون نهر النيل في النقل والتنقل، وكذلك سكان بلاد الرافدين، وبعد اكتشاف القارة الأمريكية تبين أن السكان الأصليين كانوا يتنقلون في الأنهار. وتعد الأنهار وسيلة مواصلات سهلة واقتصادية، وخاصة الأنهار العميقة، وتلك التي تصب في البحار، حيث تدخل إليها السفن من البحر في أوقات المد وتعود في أوقات الجزر، وما يزال نهر الدانوب الذي يربط سبع دول أوربية بعضها ببعض ومع البحر الأسود من أهم المجاري المائية الصالحة للملاحة وكذلك معظم الأنهار الكبيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا. والملاحة النهرية أسهل من الملاحة البحرية من حيث تحديد الموقع، لأن المراكب تسير فيها محاذية الشاطئ المحدد على الخرائط  إلا أن الصعوبة في الملاحة النهرية تكمن في معرفة المجرى الآمن لوجود العوائق والمنحدرات والرواسب المتغيرة والموسمية التي تغير الأعماق والمسارات في الأنهار، فكان لابد من وجود نظام آمن على مدار العام مع تجريف قاع النهر وإزالة العوائق الملاحية وتحديد المسارات بالعلامات الإرشادية، وتحديد المناطق الخطرة والآمنة مع معرفة الأعماق بدقة متناهية، وخاصة في موسمي الفيضان والجفاف. تحمّل جميع هذه المعطيات على خرائط ملاحية نهرية تساعد الملاّح ومجساته على التوجه وفق نظم الملاحة النهرية، وتحديد مناطق التجاوز والتقاطع ذهاباً وإياباً مع إنشاء الموانئ النهرية للوقوف والتزود وتفريغ الشحنات واستلامها وأعمال الصيانة. وفي جمهورية مصر مثلاً ثمة هيئة عامة للنقل النهري تتولى تطوير الشبكة الملاحية، وإدخال نظام تشغيل لنقل الحاويات نهراً وعن طريق البحر وتعمل على الوصول إلى نظام نقل آمن على مدار العام. وهي تشرف على تجريف المسارات الملاحية ووضع العلامات الإرشادية والخرائط الملاحية، وإنشاء نظم تحكم واتصالات وتجهيز الموانئ النهرية، مثل موانىء أسيوط وقِنا وكذلك الموانئ الصناعية شمال أسوان والمنيا وبني سويف، لخدمة النقل النهري بين المحافظات، حيث تتمكن هذه الموانئ من استقبال أكثر من 75 ألف حاوية سنوياً،إضافة إلى إنشاء معاهد إقليمية للنقل النهري.

لقد تطورت الملاحة عامة تطوراً مذهلاً في العصر الحاضر، وما زالت آفاقها مفتوحة بتطور التقانة الحديثة ووسائل الاتصال والرصد الآني لأي نقطة على البر وفي البحر مع إمكان التوجيه الآلي والبرمجة والرؤية في مختلف الظروف، وستبدأ أوربا بالعمل عام  2008 على نظام غاليليو الفلكي الأوربي بوساطة الساتل الأوربي كيوف، والتطور مستمر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق